ملخص كتاب هندسة الجمهور
1- غزو المريخ: كيف يتغذى الديكتاتور على الإعلام؟
في ليلة باردة من شهر نوفمبر عام 1938 كانت شبكه إذاعية تبثّ حفلًا موسيقيًّا، ثم انقطع البثّ لإذاعة خبر عاجل مضمونه غزو فضائي من المريخ. كان لذلك الخبر أثرٌ مخيفٌ في نفوس المستمعين، وأصبحوا في حالة من الذعر، ثم تبيَّنَ أخيرًا أن ذلك مجرد عمل فنِّي مستوحى من رواية باسم (حرب العوالم ). كان ذلك متقَنًا جدًا إلى حدّ التصديق، ثم أصبحت تلك الواقعة مصدر إلهام لكثير من الأبحاث حول قوة تأثير وسائل الإعلام في الجمهور، وتميُّزها في زمن تلقِّي الخبر ونقله على عكس الإعلام المطبوع كالجرائد.
من هنا لعبت الإذاعة دورًا مهمًّا في ترسيخ دكتاتورية بعض الطغاة، مثل (هتلر ) حين قال وزير الإعلام الألماني: "لم يكن لنا تولِّي السلطة أو استخدامها بالأسلوب الذي فَعَلْنا دون المذياع ". من المهم أن نذكر دور (إدوارد بيرنيز ) الذي يعتبر العرّاب الحقيقي للخداع الإعلامي؛ حيث اعتمد في ذلك على نظريات خاله عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد )، وبات يستخدم مصطلحات كـ (هندسة الإجماع ) و (هندسة القبول )، وشرح ذلك حين قال: "لو أننا فهمنا آليّات العقل الجماعي ودوافعه، أليس من الممكن السيطرة على الجماهير وإخضاعهم لأسلوب موحّد حسب رغبتنا دون أن يدركوا ذلك؟ ".
2- أيها الشعب، لستَ ذكيًّا إلى هذا الحدّ
الشعوب تتغنَّى في أناشيدها وشعاراتها بذكائها، فهل هذا الوصف يكون بالفعل صحيح؟ هل يكفي للتدليل على عبقريَّة شعب وجود بعض العباقرة بين صفوفه؟ ، وإذا كان ذلك صحيحًا فهل الشعوب الذكية غير قابلة للخداع الإعلامي؟ في دراسة لـ (ريتشارد لين )، وجد أن الشعوب الذكيَّة تتمتع بقدر لا بأس به من حرية الإعلام؛ لكن يكون الإعلام أكثر تعقيدًا وأعظم تأثيرًا على تلك الشعوب، وبذلك أكثر قدرة على الخداع؛ لذلك لايمكن الجزم باستحالة خداع تلك الشعوب الذكية.
وهناك أربع سمات رئيسية في الفرق بين إعلام المجتمعات التي تتمتع بالحريات وبين إعلام المجتمعات المقهورة، وهي:
أولًا: مستوى التناقض بين الحقيقة والكذب.
ثانيًا: مستوى الصناعة الإعلامية للأكاذيب.
ثالثًا: وجود النخبة المؤثرة المعارضة للخداع.
رابعًا: توفر البيئة القانونية الداعمة للحريات.
وتكمن أهمية الإعلام أيضا في أنّه أحد أهم فروع علم الاتصال، ولعلم الاتصال تعريفات عدة، منها: نشر رسالة إلى أكثر من شخص. وكان النموذج الأوضح هو نموذج (لازويل ) ويتضمن: (من المرسل؟ وماذا يقول؟ وبأي وسيلة؟ ولمن يتم إرسالها؟ وبأي تأثير؟ ) .
3- الخدعة الأولى: الإعلام لا يعرف الكذب أبدًا
يصف (آل جور ) التأثير الإعلامي على الشعب الأمريكي فيقول: "فجأة، وفي جيل واحد غيَّر الأمريكيون نمط حياتهم اليومي، وبدأوا بالجلوس أمام صور تتحرك في شاشة قرابة الـ 30 ساعة أسبوعيا ". حتى أن الإعلام وصل لمرحلة هامة من التأثير على أفكار الأفراد السياسية، وظهر ذلك في ازدياد شعبية (أوباما ) إبان الانتخابات الرئاسية ضد (ماكين ) حين دعمته الإعلامية الشهيرة (أوبرا وينفري ). وعلى صعيد أهم، أصبح الإعلام مرجعًا لبناء التصورات والمواقف وإدراك الواقع، مما أدَّى إلى أن الجمهور أصبح من الصعب عليه تصديق أي اتهامات للإعلام؛ فلو صدّقَها فلن يجد من يزوده بالمعلومات التي يحتاجها.
ودائمًا ما يحاول الإعلام يحاول أن يرسم صورة مخالفة للواقع، فمثلًا لو هناك فساد في دوائر الحكم؛ تجد الإعلام يتكلم عن نزاهة المسؤولين. وعندما يعتمد الجمهور على الإعلام بشكل كبير في تكوين أفكاره عن الواقع من حوله، فإنه يرى الفساد أمام عينيه، ولكنه يكذبه؛ لأن الإعلام يقول العكس، ولذلك يصنع الإعلام عند المشاهد سلام نفسي على أن ما يحدث من فساد هو الصواب. وبالتالي يعيش الجمهور في عالم من الخداع دون أن يدري؛ بسبب التصوير المزيف للإعلام لهذا العالم.
4- من يحدد وجهة الإعلام؟
هناك مثل مشهور يقول: (من يدفع للزَمّار يختار اللحن ). إن تكلفة إنشاء قناة فضائية تتعدي تقريبًا مليونَيْ دولار، وبالنظر إلى الإعلام العربي، نجد أنه لا يحقق الإيرادات المرجوّة لتغطية تكاليف إنشاء هذه القنوات على عكس الإعلام الغربي، ومع ذلك نُفاجَأ باستمرار تلك القنوات اعتمادًا على تدفُّق ملايين الدولارات من الساسة ورجال الأعمال، من ذلك ندرك أن اتجاه الإعلام يتبع بوصلة المموِّل.
وببساطه تستطيع أن تستنبط أن الخلطة السرية للإعلام تضم ثلاثة أركان: (المال، السياسة، والإعلام ) ؛ فرجال الأعمال يحتاجون الإعلام والساسة لتمرير المصالح، والساسة يحتاجون الإعلام ورجال الأعمال للدّعم المادّي والتّرويجي، والإعلام يحتاج تدفُّق ملايين الدولارات للاستمرار .
المال يصنع السياسة ويصنع الإعلام، وكذا يفسدهما، ولهذا يقول (ميكافيلي ) في كتابه (الأمير ): "غالبا ما يضطر الأمير الذي يود أن يحافظ على سلطته أن يكون غير صالح؛ ذلك لأن الفئة التي يرى ضرورة الاعتماد عليها فاسدة، سواء عامة الشعب أو الجنود أو النبلاء؛ فإن حاجاتك الملِحَّه تجعلك تُكيِّف نفسك حسب مزاجها؛ فالتصرفات الأخلاقية الفاضلة في هذه الحال، لن تجلب لك سوى المتاعب ".
5- نظرية (بافلوف ): كيف يمكنك أن تخدع كلبًا؟
في العقد الثاني من القرن العشرين، ظهر ما يعرف بـ الاتجاهات السلوكية في علم النفس؛ حيث اعتقد كثير من العلماء أن نماذج السلوك عند الإنسان تتشابه مع مثيلاتها عند الحيوان. العالم الروسي (إيفان بافلوف ) كانت له تجربة شهيرة، موجزها أنه قام بتعريض مجموعة من الكلاب لبعض المثيرات الخارجية، منها ما هو مثير حقيقي مثل الطعام، ومنها ما هو مثير محايد مثل الجرس، فكان يقدم الطعام للكلاب مع ضرب الجرس، ثم صار يضرب الجرس من دون تقديم الطعام، واكتشف أن رد فعل الكلاب (جريان اللعاب)، قد صار يتحقق بعد فترة في حال تحقُّق المثير المحايد وحده، رغم غياب المثير الحقيقي.
هذه النظرية اقتبسها الإعلام التلفزيوني منذ فترة طويلة، واستخدمها في توصيل العديد من الرسائل، وقام الإعلام الأميركي بوضع صور الدمار والوحشية مع صور الجنود الألمان خلال فترة الحرب العالمية الثانية. بعد فترة صار ظهور صور الألمان في حد ذاته، يؤدي إلى الإحساس بالكراهية عند المشاهِد. كما استخدم الحزب النازي في (ألمانيا ) تلك التقنية كثيرًا لتشويه الفكر الديموقراطي؛ فقد كان من الطبيعي أن تخرج وسائل الإعلام لتقول: "في ألمانيا كذا حزب وكذا مليون عاطل"، بمرور الوقت استقر في اللاوعي الألماني أن البطالة نتيجة للديمقراطية؛ مما أدّى إلى نفورهم منها وموافقتهم على نظرية الحزب الواحد الشمولية.
في الوقت الحالي يمارس الإعلام الغربي تلك الطريقة لتشويه صورة الإسلاميين؛ حيث تعرض الشاشات أشكال الإرهابيين وهم يقرءون القرآن أو يقومون بأداء الصلاة، هذا أدى إلى أن معظم الغربيين يتخوّفون من المسلمين في حال شاهدوهم أثناء ممارسة طقوس العبادة. وبعد تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حرص الإعلام الأميركي على خلق ارتباط شَرْطِي بين (أسامة بن لادن ) و (صدام حسين )، فإذا كان الأول هو المسئول عن تنفيذ الهجمات؛ فإن وضع اسم الثاني معه في جملة واحدة، سوف يؤدي إلى تحريك المشاعر السلبية ناحيته بالتأكيد.
6- الاستعانة بصديق: كيف يجعل الإعلام الكذب حقيقة علمية؟
أحد أهم الوسائل والتقنيات التي يلجأ إليها الإعلاميون لترويج منتجهم الإعلامي، هي الاستعانة بالخبراء أو النخبة؛ فالجمهور في كثير من الأحيان والمواقف، يشعر أنه غير قادر على اتخاذ القرار المناسب، ويكون في حاجة إلى من يرشده، هنا يقدّم الإعلام الحل، حينما يظهر في دور المحايد ويستقدم أفرادًا يدَّعي أنهم خبراء، ثم يسألهم - ببراءة - عن الحلول، ويدعو الجمهور بعد ذلك إلى اتّباعها.
في عام 1924، انخفضت شعبية الرئيس الأميركي (كالفن كوليدج )؛ فقام باستدعاء الخبير الإعلامي (بيرنز ) ليطلب منه النصيحة؛ فاستقدم (بيرنز ) 34 نجمًا من نجوم هوليود، وأقنعهم بأن يقوموا بزيارة للرئيس الأميركي، وهو ما أسفر بالتبعية عن زيادة كبيرة في شعبيته. ويظهر ذلك كيف يتم التعامل مع النخب الموثرة في الشكل العام إما بالمنع - إذا كان يتبنَّى رأيًا معارضًا - ، أو بالاحتواء - كالإغراء بالمال - لتبنِّي توجّهاتهم، أو الاكتفاء بخلْق نُخَب من داخل النظام الحاكم (تصنيع ذاتي للنُّخب ) .
وعلى المستوى العربي يتمثل ذلك في (جمال عبد الناصر )، حين اعتمد على الضباط المتقاعدين في الانتشار في وسائل الإعلام واستخدام رموز الفن في الحديث عن عظمته، هذا بالإضافة إلى الكارثة التي عرفت باسم (التنظيم الطليعي )، وهو تنظيم سياسي تابع للاتحاد الاشتراكي، الهدف منه - كما أعلن وقتها - تجنيد العناصر الصالحة للقيادة وتنظيم جهودها، وتحفيز الجماهير. ويضم أكثر من 30 ألف عضو في شتى المجالات، مهمّتهم التلاعب بالرأي العام، ومن أشهر رموزه: (أحمد فتحي سرور ) و (صفوت الشريف ) و (صلاح جاهين ).
7- هندسة المجتمعات: كيف يشكّل الإعلام العقول؟
هل سألت نفسك يوما: ما الذي يجعل الإجابة مختلفة عند كل شخص لنفس السؤال؟ إنه ما يعرف بـ (النظام الإدراكي المعرفي للإنسان )؛ فالاستجابة لا تصدر من الإنسان وفقًا لقوانين معينة ثابتة، بحيث تكون جميع الاجابات واحدة؛ وإنما يستجيب للواقع وفقًا لأفكاره وقناعاته وذكرياته وأخلاقه.
من الأمثلة الطريفة ما يُروى عن (ماري أنطوانيت ) ملكة فرنسا قبل الثورة، والتي كانت تعيش عيشة مترفة منعزلة عن العالم الخارجي، فقد قيل إن بعض الحراس وجدوا فلاحًا مغشيا عليه من فرط الجوع، فأتوا به إليها، فأشفقت عليه وقالت له "يا سيدي، يجب ألا تتبع هذا الرجيم القاسي "، وليس هناك غرابة في موقفها؛ لأنها متأثرة بأفكارها وتربيتها على كل ما تره؛ فالجوع الذي حدث للفلاح ليس بسبب الفقر بالنسبة لها، بل هو بسبب الرجيم.
ومن هنا يمكن أن نحدد كيف تتعامل وسائل الإعلام مع الطريقة التي يفهم بها المشاهد الأفعال والأحداث، يتم ذلك وفق ثلاث استراتيجيات وهي: التوظيف والتعديل والتنميط. أما التوظيف: فعن طريق تحليل الطريقة التي يفهم بها لجمهور، يمكن صياغة الرسالة الإعلامية بحيث تتناسب مع عقلية المجهور؛ لتكون أكثر تأثيرًا ولتحقق مستوى مرتفعا من الاستجابة، وأيضا لتهميش القدرات الدفاعية لدى المتلقِّي العادي بدرجة كبيرة. أما تغيير طريقة فهم الجمهور، والتي يرى الجمهور الواقع منها، فالإعلام الموجَّه يسعى إلى تعديل وتشكيل هذه الطريقة بصورة مستمرة لتتناسب مع القضايا التي يناقشها؛ وذلك من خلال ترسيخ بعض الأكاذيب وتحويلها إلى حقائق، ومن خلال حذف وإضافة بعض التفاصيل والأفكار؛ لإعطاء صورة مزيّفة عن الواقع.
وبالتالي، فيمكن القول أن الوسيلة الأسهل لتعديل طريقة فهم الجمهور للأحداث، هي إغراق الجمهور بمعلومات كاذبة تجبره على تغيير تصوّره عن الواقع؛ ليستبدله بصورة أخرى زائفة. وتعدّ "الحقبة الناصرية " من أكثر الفترات التاريخية التي تذخر بنماذج متنوعة عن "صناعة الصور الزائفة " عن الواقع بكل مفرداته: الزعيم، الأعداء، الأمة، الشعب ... إلخ، وقد استُخدمت في ذلك كل وسائل الإعلام، وجرى ذلك كله لـ "هندسة إدراك " الجمهور بما يخدم النظام السياسي القائم، ويغطي على هزائمه ونكساته المتتالية.
وأما بخصوص عملية "تشكيل طريقة الإدراك "، فإن الإعلام يسعى إلى إعادة تشكيل المعارف لأفراد الشعب بما تتضمنه من ثقافات وخبرات وقِيَم وعادات وتقاليد؛ بغرض الوصول إلى مجتمع متجانس في تصوّراته؛ يتكوّن من نماذج واحدة متشابهة، تتصرف كما يريد النظام السياسي وإعلامه لها أن تتصرف.
8- الإعلام:كل شيء، لكل إنسان، وفي أي وقت
يتابع الإنسان وسائل الإعلام لاحتياجه لمجموعة من الحاجات والدوافع، وعلى أساس ذلك يحدد نسبة مشاهدته لوسائل الإعلام. وقسّم العلماء الحاجة إلى: حاجة معرفية لمعرفة المعلومات، وأخرى عاطفية للتّرفية والتسلية، وأخرى تسمى بالحاجة إلى الاندماج الشخصي - كتقوية الشخصية والشعور بالسيطرة -، وهناك حاجة أخرى تسمى بحاجة الاندماج الجماعي - كتقوية التواصل مع الآخرين -، وأخيرًا الحاجات إلى الهرب - كالرغبة في التخلّص من التوتر- .
ومن ثقافة الحاجة - أي احتياج الحقيقي - إلى ثقافة الرغبة - أي الاحتياج الكاذب الذي يصوّره الإعلام -، يلعب الإعلام دورًا خطيرًا عن طريق وهم المتلقِّي بأنّه يفتقر إلى حاجات غير حقيقية من أجل توجيهه لسلوك معين يترتب عليه مصلحة من يتحكمون بالإعلام أو النظام الحاكم. وفي ذلك يقول (بول مازور ) : "لا بد أن نحول أمريكا من ثقافة الحاجة إلى ثقافة الرغبة، ويجب تدريب الناس على أن يرغبوا وأن يريدوا أشياء جديدة، فلا بد أن تتغلب رغبات الإنسان على حاجاته "، ومثال ذلك الاحتراف العالي للإعلان عن منتج أنت لست في حاجة إليه؛ ولكن عبقرية الإعلان توهمك أنك بحاجة إلى تلك السلعة أو الخدمة فيتحقق إيجاد الرغبة، ثم تأتي بعد ذلك بالطبع الخطوة التالية وهي أن يتم توجيهك إلى كيفية إشباع هذه الرغبة.
هناك ما يسمى بـ (الإشباع البديل ): ويتمثل ذلك حين تستشعر الحكومة حاجة الشعب إلى التظاهر ونقد الحكومة والاحتجاج والتمرد؛ فإنها تكلف وسائل الإعلام بالنقد العلني للحكومة فيتحقق للشعب إشباع بديل، وعندما يتابع الجمهور ذلك تتراجع حدة غضبه تلقائيًا. من جهة أُخرى يُعَد خَلْق الحاجة إلى التشويق والجذب وتتبُّع الغرائب، من أنجح طُرق وسائل الإعلام لجذب الجمهور؛ متمثلًا في اتّباع أساليب عديدة ما بين استخدام الكلام العامي والسوقي والانفعال الزائد (المفتَعَل )، ولا مانع من بعض الشتائم مع قدرٍ لا بأس به من الإيحاءات الجنسية.
9- مِن جِلْدتنا ويتكلمون بألسنتنا ... ولكن
لا قيمة للإعلام بدون جمهور، ويتحدد نجاح الإعلام بعدد المتابعين. ولتحقيق النمو في عدد المتابعين، كان لزامًا على وسائل الإعلام تجنب الصدام مع أفكار الجمهور ومعتقداته وأفكاره وأخلاقه؛ إذ لكل إنسان جماعة ينتمي إليها ويستمد منها عاداته وأفكاره؛ فتصبح الجماعة حاكمًا للفرد في اختيار سلوكياته وأفكاره، ومن هنا كان لزامًا على وسائل الإعلام تقسيم المتلقِّي إلى متلقٍّ خاص - ويقصد به جماعة بعينها - ومتلقٍّ عام - ويقصد به عامة الشعب بما فيهم هذه الجماعة أو الجماعات - ، ثم بدأت وسائل الإعلام في تطوير وسائل بهدف تنفيذ رؤيتها وعرض وجهة نظرها دون أن تدخل المتلقين في أزمة تناقض.
من هذه الوسائل نظرية اللعب أو الإمتاع: وتتلخّص في تقسيم المحتوى الذي يقدمه الإعلام إلى أشياء جدّية وأخرى مسلية؛ كنشرة الأخبار يتبعها برنامج ساخر مثلًا. والداعي إلى ذلك هو أن البرامج الجدية تخلُق التوتر، وتكون باعثًا على الحاجة إلى التسلية والترفيه؛ فيأتي هنا الإعلام ببرامج التسلية بناءً على رغبة الجمهور، ثم يستغل تلك البرامج لتنفيذ رؤيته؛ ومن الوسائل المستخدمة في ذلك: استغلال الخلاف الثقافي والديني بين الجماعات كثغرة لنشر رؤية الإعلام، ومثال ذلك: التجاوز عن بعض الأحكام الشرعية بدعوى أن هذا الحكم تتبنّاه شريحة معيّنة من المتدينين وليس كل المجتمع.
كذلك من الوسائل: استخدام المنشقّ أو الذي يترك مجموعة أو جماعة معينة لضرب أفكار هذه الجماعة، ومثال ذلك: استخدام قبطي مُعارض للكنيسة لِضَرْب أفكار الكنيسة. والأمثلة لا تُحصى. ومن الوسائل أيضًا: الخداع المؤقت، بِبَثّ برامج تساير المعايير والضوابط للمجتمع؛ كنوع من المسايرة وتمشية الحال بشكل مؤقت، ثم استخدام فقرات أُخرى لضرب نفس الضوابط بأسلوب مُتَلَوِّن، وأبسط مثال على ذلك هو الهجوم على ثورة يناير ودعم مبارك، ثم الاحتفاء بالثورة، ثم مرة أُخرى اعتبار الثورة مؤامرة، كل ذلك في غضون ثلاث سنوات.
10- فن الوصول إلى الزبون
(فن الوصول إلى الزبون ) هي عبارة أطلقها بعض الخبراء، وتتمثّل في تكرار الرسالة الإعلامية لحمايتها من التشويش والفقد، ولتحقيق أهداف وعوائد دعائية ذَكر معظمها (غي دورندان ) في كتابه (الدعاية والدعاية السياسية ) وهي كما يلي:
تمرير الكذب: في الأول يُكذَّب، ثم - مع التكرار - يحدث الشك، ثم الحيرة، ثم يُصدَّق في النهاية.
جذب الانتباه ومنع النسيان.
العرض المستمر وتبدُّل الحاجات: تكرار عرض المنتَج يجعله أمامك حين تكون في غنى عنه، وحين تتبدل الظروف، تكون في حاجة إليه،كالإعلان عن دواء وأنت غير مريض، ثم تصبح بحاجة إليه عند المرض.
الاستفزاز الدافع للمتابعة: تكرار الرسالة يُعدّ دافعًا للمتابعة، بالرغم من استفزازه للمتلقِّي.
كسر التقاليد وتوليد اللامبالاة.
استعراض القوة.
11- إذا كان الجمهور يُصدِّق؛ فلماذا يتوقف الإعلام عن الكذب؟!
لا شك أن الإعلام لن يتوقف عن الكذب طالما يصدقه الجمهور؛ فما هو إذن السبب الباعث على التصديق؟ من الممكن تلخيص الإجابة في عدة أمور أهمها: عدم القدرة على النقد، والكسل عن التحقُّق من الملعومات، وقبول الشخص المعلومة بعد توافقها مع مرجعيته الفكرية دون تفكير أو بحث، وخلط الكذب ببعض الصدق حتى تحدث المصداقية.
12- الأجندة: كيف يوظّف الإعلام تأثيره؟
يوظف الإعلام العاطفة لتحقيق أهدافه، كإثارة الخوف وإنشاء أوهام حول شخصٍ ما لدرجة تحويله لأسطورة فيما يسمي بـ (أُسطورة التصديق )، أو على النقيض تجسيد الشر في صورة شخص أو منظمة فيما يُسَمَّى بـ (أُسطورة العدو: كَبْش المحرقة ).
والمقصود بالأَجِنْدَة هو وضع الأخبار في ترتيب معين حسب الأهمية التي تخدم مصلحة الإعلام، أو مصلحة من وضع تلك الأجندة. وتتبع وسائل الإعلام طرقًا عدة لجذب المتلقي إلى أجندتها، مثل تقديم رؤية لسير الأحداث تُغني المتلقي عن إهدار وقته لمحاولة فهمها بنفسه، هذا بالإضافة إلى التغطية المتزايدة للأحداث غير العادية باعتبارها أكثر جذبًا، ناهيك عن الترتيب الانتقائي لقائمة الأخبار على حسب الحدث الأبرز الذي يشغل العامة.